بورتريه / عبد الكريم الزبيدي الإستثناء الهادئ في عاصفة الإستعراض والمزايدة

 

وقد خضع آداء جل الأعضاء الحكوميّين إلى منطق التجاذب والمزايدات السياسية، الأمر الذي مثّل أهم نقطة وهن في مسار الحكومات المتعاقبة، ولعل الخطير في هذا التشخيص هو إنسحاب الأمر على بعض الوزراء الذين تقلّدوا وزارات  حيوية حساسة والتي كان يفترض منذ اليوم الأوّل أن تبقى بمنأى عن التجاذب السياسي وتهافت القوى السياسية والمجموعات النافذة عن الإستثمار فيها وتوظيفها، وقد إنتهى الامر في مراحل معينة إلى خلق وزارات ممزقة وغير متجانسة كما هو أمر وزارة الداخلية في ظل أغلب الحكومات.

 

ولكن عاصفة الإستعراض والمزايدة التي حكمت المشهدية الحكوميّة بشكل عام لم تمنع من ظهور نماذج عصية عن الإنخراط في حفلات الشّخصنة والبحث عن الإثارة الجوفاء مثل وزير الدفاع الحالي عبد الكريم الزبيدي، هذا الرجل الذي خضع لإختبار السلطة في مناسبتين، الأولى في ظل حُكم الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي، فكان مثالا لرصانة رجل الدولة رغم محاولات الإستفزاز العدّة التي حاولت إستدراجه إلى مستنقع ردّ الفعل الذي لا يناسب دقة تلك المرحلة الحالكة وحساسية منصبه على رأس أهم مؤسسة في تاريخ ما بعد الثورة، وقد أصر الزبيدي على الخروج من بوابة المسؤولية الكبرى دون ضجيج بعد أن رفض الإنخراط في منظومة التسيير الهاوي والموتور للدولة حينها.

 

اليوم عاد عبد الكريم الزبيدي إلى منصبه على رأس وزارة الدفاع وقد بقي وفيّا لهدوئه وترفعه المعهود عن الإستعراض المشهدي التي إنزلق إليه عدد كبير من الوزراء بُمجرّد تعيينهم.

 

هدوء الزبيدي وترفّعه لا يتأتى فقط  من طبيعة الرجل الذي يتحلى برصانة المسؤول المُحنّك والزاهد في الإغراءات الجانبية للسلطة وإنما أيضا من وضوح الرؤية والهدف الذي دفعه إلى القبول بمنصب وزير الدفاع من جديد رغم إدراكه لحجم التحديات التي تواجه الحكومة وتواجه وزارته بشكل خاص.

 

فخلافا لعديد الوزراء الذين بدت عليهم اللخبطة والإرتباك منذ يومهم الأول في الوزارة مما جعل بعضهم يجنح منذ البداية إلى إتباع سياسة إتصاليّة بالية بإعلام موازٍ تشكّل صفحات الفايسبوك المدفوعة الأجر أحد ركائزه لإخراج صورة محورها  الجولان الميداني المُمسرح للوزير ناهيك عن مساعي بعضهم للبحث عن الغطاء السياسي خارج دوائر الحكومة وأعراف التراتبية في المسؤوليّة (وهو أمر خطير لا سيما إذا تعلق بوزارات سيادية حساسة).

 

خلافا لذلك إنصب إهتمام وزير الدفاع الحالي عن العمل الهادئ على تحقيق أولويات دقيقة وواضحة في ذهن الرجل، تلك التي تتمثل أساسا في مواصلة دعم جاهزية المؤسسة العسكريّة على المستوى اللوجستي والتنظيمي لتنمية قدرتها على مواجهة الإرهاب والجريمة المنظمة، هذا فضلا عن العمل على تحسين الوضع المادي والمهني للعسكريّين (العمل على إقرار زيادة مرتقبة في الأجور)

 

كما تتضمن أولويات الزبيدي ما يعتبره حلما خاصا سيعمل جاهدا على الدفع لتحقيقه والمتمثل في مشروع تنمية الصحراء العميقة (رمادة-برج الخضراء) ويتضمن المشروع خطة لتهيئة مطار رمادة وتركيز بنية طرقية حديثة ستبعث الحياة في ربوع تلك المنطقة.

 

هذه الأهداف التي رسمها لنفسه عبد الكريم الزبيدي ستكون مُظللة بمبدأ عام يُركز على إستقلالية المؤسسة العسكريّة وتحييدها عن متاهات التجاذب السياسي ودعم صورتها كمؤسسة وطنية مُترفعة عن جميع أشكال التلون والإصطفاف السياسي.

 

ولا شك أن وضوح الرؤيّة والأهداف الدقيقة التي رسمها عبد الكريم الزبيدي لعُهدته هي إنعكاس للدرجة العالية من الإتزان الذي يتحلى به الرجل بعيدا عن لوثة الغرور والمزايدات التي يتعمد البعض اللجوء إليها للتغطية على إنعدام الرؤية وغياب برنامج العمل فضلا عن البحث عن التموقع السياسي الأجوف والذي لا يمكن أن يصنع بأي حال من الأحوال رجال دولة بحق.